**بيت الدمى القديم**
في قرية نائية تكتنفها الأساطير، حيث تتراقص
أشجار الصنوبر العتيقة على إيقاع الريح الهامسة، وقف منزل مهجور منذ عقود طويلة. كان
يُعرف بـ "بيت الدمى القديم"، اسم اكتسبه من الحكايات المتوارثة عن
المالكين السابقين، عائلة السيد والسيدة بلاكوود، اللذين كانا يعشقان جمع الدمى. اختفيا
في ظروف غامضة ذات ليلة، تاركين وراءهما قصصاً محبوكة بالخوف والخرافات.
كان الشاب "آدم"، صحفي مهتم
بالظواهر الخارقة، قد سمع عن هذا البيت وقرر أن تكون هذه قصته التالية. وصل إلى
القرية في أمسية خريفية كئيبة، حيث كانت السماء تتلبد بغيوم رمادية ثقيلة، وكأنها
تستعد للبكاء. استقبله أهل القرية بنظرات مشوبة بالحذر والشفقة، محاولين ثنيه عن
فكرته، محذرين إياه من "الساكنين" في الداخل. لكن فضوله كان أكبر من
خوفه.
عندما اقترب آدم من المنزل، شعر ببرودة
غريبة تتسرب إلى عظامه، ليست برودة الطقس، بل شعور خفي بالرهبة. كانت النوافذ
المغلقة تشبه عيوناً عمياء تراقب، والباب الأمامي الخشبي يبدو كفم مفتوح يبتلع
الظلام. اخترق السياج المتهالك وتسلل إلى الحديقة المتوحشة، حيث نمت الأعشاب
الطويلة لتخفي معالم الطريق.
فتح الباب بصعوبة، وصدر عنه صرير مرعب كأنه
أنين شبح. استقبله هواء راكد، ثقيل برائحة الغبار والعفن والشيء الذي لم يستطع
تحديده. أضاء مصباحه اليدوي، وكشف عن بهو فسيح تغطيه الأغطية البيضاء الشفافة،
التي بدت كأشباح صامتة. كانت أرضية المنزل مكسوة بسجاد سميك، لكن خطواته كانت تحدث
صدى غريباً، كأن هناك من يشاركه المكان.
تجول آدم في الغرف، كل واحدة منها تحكي قصة
صامتة. غرفة المعيشة، المطبخ، ثم صعد الدرج الخشبي الذي تئن كل درجة تحت قدميه. وفي
كل زاوية، شعر بتلك النظرات الخفية تلاحقه. وصل إلى الطابق العلوي، حيث كانت
الأجواء أكثر برودة، وأكثر سكوناً.
ثم وجدها. غرفة الدمى.
كانت الغرفة مليئة بالدمى من كل الأشكال
والأحجام. دمى بورسلين ذات وجوه شاحبة وعيون زجاجية فارغة. دمى خشبية محفورة بدقة
لكنها بلا تعابير. دمى قماشية مهترئة. كانت مرتبة على الرفوف، على الكراسي، وحتى
على الأرض، وكأنها اجتماع صامت ومروع. لكن ما جعله يتوقف في مكانه هو نظراتها. بدت
جميعها تحدق فيه مباشرة.
شعر آدم بتجمد الدم في عروقه. التقط إحدى
الدمى، كانت دمية بورسلين لفتاة صغيرة ترتدي فستاناً أزرق، عيناها الزجاجيتان بدتا
تتوهجان في ضوء المصباح. في تلك اللحظة، سمع صوت خشخشة خافتة قادمة من خلفه. استدار
بسرعة، لكن لم يكن هناك شيء. أعاد الدمية إلى مكانها، وشعر أن شيئاً ما تحرك في
عينيها. هل كان مجرد وهم؟
استمر في التصوير، محاولاً تجاهل الشعور
المتزايد بالخوف. بينما كان يصور إحدى الدمى، لاحظ شيئاً غريباً. كانت هناك دمية
على كرسي هزاز، بدت وكأن رأسها مائل قليلاً عن بقية الدمى. عندما عاد بعد دقيقة
لتصويرها مرة أخرى، وجد أن رأسها قد استقام.
بدأ قلبه يخفق بعنف. هذا ليس وهماً.
حاول أن يطمئن نفسه بأنها مجرد أشباح الغبار
والظلال، لكنه لم يستطع. فجأة، سمع صوت موسيقى خافتة قادمة من الطابق السفلي، لحن
صندوق موسيقى قديم، بطيء ومخيف. الصوت كان أقرب إلى الهمس. نزل آدم الدرج بحذر،
يتتبع مصدر الصوت.
توقف الصوت فجأة عندما وصل إلى غرفة المعيشة.
كان الظلام هناك أكثر كثافة. أضاء مصباحه اليدوي، ثم رآها.
كانت الدمية التي التقطها في غرفة الدمى
جالسة على الأريكة، تنظر إليه مباشرة. لم تكن مجرد دمية الآن. بدت وكأنها تبتسم،
تلك الابتسامة الشاحبة، وعيناها الزجاجيتان تبدوان عميقتين، تحملان شيئاً مظلماً
لا يمكن تفسيره.
ارتجف آدم من رأسه حتى أخمص قدميه. تراجع
ببطء، لكن قبل أن يصل إلى الباب، سمع صوت خشخشة خفيفة أخرى. وعندما استدار، وجد أن
جميع الدمى التي كانت في الطابق العلوي قد نزلت، وهي الآن تملأ بهو المنزل، محيطة
به في دائرة صامتة. كانت نظراتها الفارغة تلاحقه، وفي كل عين زجاجية، رأى انعكاس
خوفه.
شعر بلمسة باردة على كتفه. تجمد في مكانه. أغمض
عينيه بقوة، وهو يسمع همسات خافتة تتزايد حوله، أسماء لم يستطع فهمها، لكنها كانت
مليئة بالتهديد. عندما فتح عينيه، كانت الدمى أقرب، ووجوهها الشاحبة أقرب.
في تلك اللحظة، لم يعد آدم يرى دمى. رأى
أرواحاً محاصرة، أرواحاً غاضبة، تبحث عن رفيق جديد لمنزل الدمى القديم. صرخ آدم
بأعلى صوته، واندفع نحو الباب، لم ينظر خلفه. ركض في الظلام، ولم يتوقف حتى غادر
القرية.
عاد آدم إلى مدينته، لكنه لم يعد هو نفسه. أصبحت
الدمى كوابيسه، وصوت صندوق الموسيقى يطارده في يقظته. لم يكتب القصة. لم يستطع. فبعض
الأسرار يجب أن تبقى مدفونة في ظلال بيوت الدمى القديمة، بعيداً عن أعين المتطفلين.
ومن يجرؤ على دخولها، قد لا يخرج أبداً، أو يخرج، لكن ليس بروحه كاملة.